هل بياناتك آمنة فعلًا؟ ما لا يخبرك به تطبيقك المفضل
🧭 مقدمة:
خصوصيتك تحت المجهر
في كل مرة تضغطين فيها على “سماح” أثناء تثبيت تطبيق جديد، تُمنحين لحظة من الراحة، كأنك أنجزت شيئًا بسيطًا. لكن خلف هذا الزر الصغير، يبدأ عالم كامل من جمع البيانات، التحليل، والتنبؤ بسلوكك المستقبلي.
في عالم اليوم، لم تعد البيانات مجرد أرقام محفوظة في خوادم، بل أصبحت “النفط الجديد” الذي تتغذى عليه الشركات التقنية، وتبني عليه خوارزميات الذكاء الاصطناعي.
تساؤل بسيط يطرح نفسه: هل بياناتك حقًا في أيدٍ أمينة؟ أم أنها تباع وتشترى في الأسواق الرقمية دون علمك؟
🧩 خلف الكواليس: كيف تبدأ التطبيقات بجمع بياناتك؟
عند تنزيل تطبيق جديد، سواء كان لتعديل الصور أو لمتابعة اللياقة أو حتى تطبيق توصيل طعام، يُطلب منك عادة منح مجموعة من الصلاحيات:
الوصول إلى الكاميرا
الموقع الجغرافي
الميكروفونالملفات والصور
سجل المكالمات أحيانًا
ما لا يدركه كثيرون هو أن هذه الصلاحيات ليست مجرد متطلبات تشغيل، بل هي منفذ لجمع بيانات دقيقة تُستخدم لاحقًا لأغراض تسويقية، تحليلية، وأحيانًا سياسية.
وفقًا لتقرير صادر عن شركة الأمن السيبراني Kaspersky في 2024، فإن أكثر من 60% من التطبيقات المجانية على متاجر الهواتف تطلب صلاحيات تفوق حاجتها الفعلية، وغالبًا ما تُستخدم هذه البيانات في بناء “بروفايل سلوكي” لكل مستخدم.
🕵️♀️ ما الذي يعرفه تطبيقك عنك حقًا؟
قد تعتقدين أن التطبيق لا يعرف عنك سوى اسمك أو بريدك الإلكتروني، لكن الحقيقة أعمق بكثير. إليك ما يمكن لتطبيق عادي معرفته عنك خلال أسبوع واحد من الاستخدام:
1/ الموقع الجغرافي الدقيق:
2/ يعرف التطبيق أين تتواجدين، متى تغادرين المنزل، وحتى المدة التي تقضينها في أماكن معينة.
3/ عاداتك اليومية:
4/ مثل عدد ساعات نومك، أوقات تصفحك، وتفضيلاتك الغذائية (من خلال تطبيقات التوصيل أو الصحة).
5/ بياناتك الصوتية والصورية:
6/ بعض التطبيقات تمتلك صلاحية فتح الميكروفون دون علمك، وتسجيل مقاطع قصيرة لتحليل الصوت بهدف “تحسين التجربة” — لكنها في الواقع تُستخدم لتغذية خوارزميات الإعلان الصوتي.
7/ سلوكك النفسي والشرائي:
8/ من خلال تتبع الضغطات، مدة النظر إلى كل منشور، وأنواع المحتوى الذي تتفاعلين معه، يستطيع الذكاء الاصطناعي توقّع حالتك المزاجية واقتراح منتجات أو محتوى بناءً عليها.
💰 البيانات = عملة رقمية جديدة
الشركات التقنية الكبرى — من “ميتا” إلى “جوجل” و”تيك توك” — تبني أرباحها على شيء واحد: تحليل بيانات المستخدمين وتحويلها إلى أرباح دعائية ضخمة.
على سبيل المثال، في عام 2024، حققت شركة Meta أكثر من 133 مليار دولار من الإعلانات الرقمية، والسبب؟ الدقة العالية في استهداف المستخدمين بناءً على اهتماماتهم وسلوكهم اليومي.
تُباع هذه البيانات أحيانًا بشكل غير مباشر عبر وسطاء بيانات (Data Brokers) — شركات متخصصة تجمع المعلومات من تطبيقات ومواقع مختلفة، ثم تبيعها لشركات تسويق أو مؤسسات بحثية.
الأخطر من ذلك أن بعض هذه البيانات قد تُستخدم في التأثير على قرارات سياسية أو اجتماعية، كما حدث في فضيحة “Cambridge Analytica” الشهيرة، عندما استُخدمت بيانات ملايين الحسابات من فيسبوك لتوجيه الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة.
🧠 الذكاء الاصطناعي يدخل اللعبة
في السنوات الأخيرة، دخل الذكاء الاصطناعي على خط الخصوصية، ليس فقط كمساعد، بل كـ”متجسس ذكي” يربط بين المعلومات الصغيرة ليكوّن عنك صورة دقيقة.
مثلًا:
*/ عندما تكتبين بحثًا عن “علاج الأرق”، وتفتحين بعد ذلك تطبيق موسيقى هادئة، وتطلبين طعامًا متأخرًا، يستطيع النظام الذكي استنتاج أنك تعانين من اضطرابات نوم، فيعرض لك إعلانات عن أدوية منومة أو وسائد ذكية.
هذه الخوارزميات لا تراقبك فقط، بل تتعلم منك باستمرار، وتحسن قدرتها على توقع قراراتك قبل أن تتخذيها.
🔐 هل فعلاً التطبيقات “الآمنة” موثوقة؟
حتى التطبيقات التي تُروّج لنفسها بأنها “تحترم الخصوصية” ليست دائمًا شفافة.
في دراسة نشرتها جامعة هارفارد عام 2024، تبيّن أن 47% من التطبيقات التي تُعلن أنها لا تشارك بيانات المستخدمين مع أطراف ثالثة، تقوم بذلك فعلاً ولكن بصيغة “مجهولة المصدر” (Anonymized Data)، والتي يمكن إعادة ربطها بالمستخدم الحقيقي عند دمجها مع بيانات أخرى.
كما أن تطبيقات الصحة واللياقة، مثل Fitbit وMyFitnessPal، تجمع بيانات حساسة جدًا عن جسم المستخدمين، مثل معدل ضربات القلب وأنماط النوم، وتُشاركها أحيانًا مع شركات التأمين أو المختبرات الطبية.
🧮 من أين يبدأ الخطر؟
التهديد لا يأتي فقط من الشركات الكبرى، بل أيضًا من التطبيقات الصغيرة وغير المعروفة التي تطلب صلاحيات كثيرة دون سبب واضح.
تطبيقات مثل “فلاتر الصور”، أو “من زارك على إنستغرام”، أو “قياس الشخصية”، غالبًا ما تكون واجهات جذابة لبرامج تجمع كميات ضخمة من البيانات مقابل خدمة مجانية سطحية.
الأدهى أن بعض هذه التطبيقات مملوكة لشركات في دول لا تطبّق قوانين صارمة لحماية البيانات، مما يعني أن معلوماتك قد تُباع بسهولة أو تُستخدم في أغراض غير قانونية.
⚖️ القوانين تحاول اللحاق بالركب
على الرغم من التطور الهائل في جمع البيانات، فإن التشريعات لا تزال متأخرة.
أوروبا سبقت الجميع بإصدار قانون اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) الذي يفرض غرامات ضخمة على الشركات التي تخالف شروط الخصوصية.
بينما أطلقت الولايات المتحدة لوائح جزئية، وأعلنت السعودية عن نظام حماية البيانات الشخصية (PDPL) في عام 2023، الذي يضع قيودًا واضحة على كيفية استخدام البيانات داخل المملكة.
لكن حتى مع هذه القوانين، ما زال التنفيذ صعبًا لأن الشركات التقنية تستخدم بنودًا قانونية معقدة تجعل المستخدم يوافق على ما لا يفهمه.
🧰 كيف تعرفين أن تطبيقك “يتجسس” عليك؟
إليك مؤشرات بسيطة يمكن أن تكشف التطبيقات المشبوهة:
1/ طلب صلاحيات غير منطقية
مثل تطبيق تحرير الصور الذي يطلب الوصول إلى الميكروفون أو سجل المكالمات.
2/ زيادة استهلاك البطارية أو الإنترنت
إشارة إلى أن التطبيق يعمل في الخلفية ويرسل بيانات بشكل مستمر.
3/ إعلانات مريبة تشبه ما تحدثتِ عنه مؤخرًا
قد تكون علامة على أن بيانات صوتك أو نصوصك تُحلل لتخصيص الإعلانات.
4/ كثرة التحديثات غير المبررة
بعض التحديثات تحمل أكواد تتبع جديدة دون إعلان ذلك.
🛡️ كيف تحمين خصوصيتك في 2025؟
الوعي هو السلاح الأقوى، لكن إليك خطوات عملية أيضًا:
1/ راجع صلاحيات التطبيقات يدويًا:
في إعدادات الهاتف، يمكنك إيقاف صلاحيات الكاميرا أو الموقع لأي تطبيق لا تحتاجينه فعلاً.
2/ استخدمي بريدًا مؤقتًا أو منفصلًا للتسجيلات:
لتجنّب ربط جميع حساباتك ببريد واحد.
3/ افعّلي التحقق بخطوتين (2FA):
حتى لو سُرّبت بياناتك، لن يتمكن أحد من دخول حسابك دون رمز إضافي.
4/ احذفي التطبيقات التي لا تستخدمينها:
فحتى التطبيقات غير النشطة تواصل جمع البيانات أحيانًا.
5/ استخدمي متصفحًا يقيّد التتبع مثل Brave أو Firefox Focus.
اقرئي سياسة الخصوصية — على الأقل أول فقرتين.
6/ فيها غالبًا الجمل التي توضّح إذا كان التطبيق سيشارك بياناتك أم لا.
🌐 المستقبل: هل هناك خصوصية رقمية بعد اليوم؟
مع دخول الذكاء الاصطناعي في كل مجالات الحياة، من التسوق إلى التعليم والرعاية الصحية، ستصبح الخصوصية مفهومًا أكثر تعقيدًا.
فحتى إن أغلقتِ كل الصلاحيات، فإن خوارزميات الذكاء الاصطناعي يمكنها استنتاج معلومات عنك من تصرفات الآخرين الذين يشبهونك في السلوك والاهتمامات.
المستقبل لا يعد بخصوصية مطلقة، لكنه يمنحنا خيارًا واحدًا: التحكم في ما نشارك، والوعي بكيفية استخدامه.
🧭 خاتمة
الخصوصية لم تعد رفاهية رقمية، بل حقّ أساسي يتآكل بصمت.
في عالم يزداد ذكاءً، كل نقرة، كل بحث، وكل صورة تُضاف إلى خريطة رقمية ترسم ملامحك بدقة متناهية.
فحين يقال لك “نحن نحترم خصوصيتك”، تذكّري أن تلك الجملة قد تخفي وراءها شبكة من الخوارزميات والبيانات التي تعرف عنك أكثر مما تعرفينه عن نفسك.
وفي النهاية، البيانات لا تُسرق دائمًا… أحيانًا نحن من نسلّمها طواعية

تعليقات